البديل
السيناريست الفيلسوف.. وداعًا محمود أبو زيد
أمس الأول الأحد فقدت الدراما والسينما المصرية ركنًا عظيمًا من أركانها.. الكاتب والسيناريست الكبير محمود أبو زيد عن عمر يناهز 75 عامًا، فمن “العار” إلى “البيضة والحجر”، مرورًا بـ “العتمة نور” و”سوق البشر” استطاع أبو زيد أن يحتل مكانًا عظيمًا في السينما والدراما، بما يقدم من أعمال هادفة، تعالج مشكلات هامة في مجتمعنا.
ولد محمود أبو زيد في القاهرة عام 1941م، حصل على بكالوريس المعهد العالي للسينما عام 1966م، ثم ليسانس اﻵداب من قسم علم النفس والفلسفة، ومن هنا بدأ مسيرته الفنية من خلال كتابة السيناريو للسينما، فكان لدراسته أثر بارز في كتاباته ونظرته للقضايا ومعالجتها، حيث كان مثيرًا، وهو ما أقر به في قوله “أعترف أني شخصية مثيرة للجدل، وهذا لا يعيبني، بل علي العكس ذلك سبب تميز أعمالي، فأنا أنظر لواقع المجتمع برؤية مختلفة، ولا أتناول الأمور بسطحية، وأقدم ما يعبر عن قناعاتي وأفكاري، ولا أخشى الهجوم أو النقد؛ لأني مؤمن بما أكتبه، وربما الفلسفة في أعمالي، بسبب دراستي للفلسفة وعلم النفس، التي جعلتني أنظر لواقع الحياة وإشكالاتها كالعلم والدين من منظور فلسفي، فأنا عندما أقرأ في الدين والكتب المقدسة، أقرأ بعقلي وقلبي قراءة تعقُّل لا تعبُّد، وحينها اكتشفت جمال ديننا، فتختلف نظرتي للأمور، وتظهر فلسفتي الحياتية”.
لم تكن أعمال محمود أبو زيد إلا ترجمة لواقعنا، ولكن بشكل غير مخل، فهو يلمح ما بالمجتمع، ثم يناقشه بنظرة فلسفية محايدة، فلا يركز على السلبيات فقط، بل يجعل في كل عمل من أعماله بصيصًا من أمل، وعندما سئل عن كتاباته التي تناقش الصراعات والتناقضات المجتمعية، أجاب: “للأسف مجتمعنا ما زال يعاني نفس الصراعات والتناقضات التي تناولتها في كتاباتي منذ الثمانينيات، بل علي العكس قد ازدادت حدتها، فالمجتمع المصري، برغم الفارق الزمني وإيقاع الحياة السريع، يعيش حالة من الازدواجية والتناقض بين الحلال والحرام، العلم والخرافة، المنطق واللامنطق وأيهما سينتصر”.
وتابع “هذه التناقضات ناقشتها في معظم كتاباتي، مثل فيلم “العار”، وهو لم يكن يتعرض لقضية الاتجار بالمخدرات فقط، بل للصراع بين الحرام والحلال، وفيلم “جري الوحوش” والصراع بين العلم والدين وضرورة تقبل الإنسان لقدره، وكذلك فيلم “البيضة والحجر” الذي تعرض لسيطرة الخرافات والغيبيات علي عقول الناس، وغيرها من الأفلام التي كشفت تناقضات مجتمعنا”.
تحدث أيضًا محمود أبو زيد عن السينما وما تقدمه وما الفرق بين واقعية السينما وإسفافها، قائلًا “سينما الواقع هي السينما التي تتحدث عن الواقع، وتنقد مساؤي المجتمع، وتكشف عوراته، ولكن يجب أن نفرق بين النقد البناء الذي يهدف إلى الارتقاء بالمجتمع والنقد الفج الذي يهدم المجتمع. وما يقدم على الساحة السينمائية اليوم ليس نقدًا، بل وقاحة سينمائية، والأفلام الموجودة على الساحة السينمائية اليوم تعكس شكل المجتمع والواقع المرير الذي يعاني من انعدام القيم والأخلاق، ولكني أتحفظ على ما يقدم؛ لأن الفن ليس نقلًا للواقع فحسب، بل يجب علينا تصوير الواقع مع تقديم لحظة تنوير تعطي أملًا؛ لأنه مع كل مساوئ مجتمعنا ما زال هناك إيجابيات ليس من العدل تجاهلها، والسينما ليس عملها إصلاح الفساد، ولكنها يمكن أن تكون لبنة في بناء المجتمع، وكتاباتي كانت تجسيد لواقع المجتمع، مع محاولة للتنوير، وقد قدمت ما أنا مقتنع به”.
ويوضح أن انهيار صناعة السينما في مصر له عدة أسباب، وربما هذا الانهيار جاء انعكاسًا للتغيرات التي حدثت في المجتمع المصري بصفة عامة، ولكن مما لا شك فيه أن العملية الإنتاجية أسهمت بشكل أو بآخر في هذا الانهيار؛ فاقتصاديات السوق طغت على صناعة السينما، وأخضعتها لمبدأ الربح والخسارة، ومنتجو هذه الأيام يبحثون عن الربح فقط على حساب المضمون والقيم الإنسانية، الذي فرض على الجمهور نوعية معينة من أفلام الإثارة الجنسية والمتعة الرخيصة. مؤكدًا “معظم كتاباتي قدمت كأفلام من إنتاجي، وبلا شك كنت أهدف للربح المادي، ولكن ليس على حساب المضمون؛ لأني أقدم فنًّا، وأهدف لمعالجة مشاكل المجتمع والارتقاء بذوق الناس، ومعظم أفلامي نجحت فكريًّا وجماهيريًّا، وحققت إيرادات مرتفعة، فلا يوجد تعارض بين المكسب الأدبي والتجاري، وصناعة السينما تحتاج لدعم من الدولة وكل المهتمين بالشأن السينمائي، هذا إلى جانب الحفاظ على تراثنا السينمائي؛ لأنه جزء من تاريخنا”.
ورغم رحيل االسيناريست الفيلسوف محمود أبو زيد، إلا أن أعماله باقية، تتحدث عن رسالته ودوره في تحسين وضع المجتمع المصري والسينما على حد سواء. ومن هذه الأعمال “جري الوحوش، العار، البيضة والحجر، الذل، الكيف”، وفي الدراما “عيون لا ترى الشمس، سوق البشر، العمة نور”.
The post السيناريست الفيلسوف.. وداعًا محمود أبو زيد appeared first on البديل.