البديل
اقرأ| «طبلية من السماء» ليوسف إدريس

اتخذ يوسف إدريس من الريف مسرحا لقصته القصيرة "طبلية من السماء"، وكان موفقا لحد بعيد في وضع يده على أدق تفاصيل الريف، فاستطاع الكاتب الكبير أن يناقش الكثير من القضايا في هذه القصة، أبرزها الجهل والبطالة والرأسمالية والنفاق، وأن يسلط الضوء على ما تلاقيه الطبقات الكادحة.
أجاد الكاتب اختيار الزمان؛ حيث تدور أحداث القصة يوم الجمعة؛ لأن الريفيين لا يعملون في هذا اليوم بحجة أن فيه ساعة نحس، وبدأ القصة بهدوء تام في القرية التي لا يعكرها سوى جري الناس دون سبب؛ فطباع الريفيين من رأى منهم أحدا يجري جروا خلفه إلى أن يبلغوا السبب.
انتهى الجري بالناس إلى "جرن" القرية، فلم يجدوا بهيمة فطسى ولا حريقا ولا رجلا يذبح آخر، بل وجدوا الشيخ علي واقفا وسط "الجرن" تنتابه حالة غضب شديدة، وقد خلع جلبابه وعمامته وأمسك بعصاه، وحين سأل الناس من سبقوهم قالوا: الشيخ هيكفر.
كان الناس حينها يضحكون ويظنون أن ما يفعله الشيخ طُرفة من طرائفه، كما كان مشهورا؛ فقد أرسله أبوه ليتعلم في الأزهر، وهناك أخطأ شيخه مرة، وقال له: "أنت بغل"، فما كان من الشيخ علي إلا أن رد عليه، قائلا: "إنت ستين بغل".
وفُصل الشيخ علي وعاد إلى بلدته "منية النصر"، فعمل خطيبا وإماما للمسجد، ونسي مرة وصلى الجمعة ثلاث ركعات، ولما حاول المصلون تنبيهه لعن آباءهم جميعا، وطلق من يومها الإمامة والجامع والصلاة، ثم تعلم "الكوتشينه" وظل يلعبها حتى باع ما يملكه، وحينئذن حلف بالطلاق أن يبطلها.
وكان محمد أفندي، المدرس بالابتدائية في البندر فاتحا دكان بقالة في البلدة، عرض على الشيخ علي أن يقف في الدكانة ساعات الصبح فقبل، لكنه لم يعمل سوى ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كان محمد أفندي واقفا في الدكان، وكان يزن حلاوة طحينية لبعض الزبائن، فاكتشف الشيخ علي أنه يضع قطعة حديد في الميزان ليطب، فقال له: إنت حرامي، وما كاد محمد أفندي يقول: لايمها يا شيخ علي واسكت خليك تاكل عيش، حتى قذفه الشيخ علي بكتلة الحلاوة الطحينية.. ومن يومها لم يجرؤ أحد أن يعهد للشيخ علي بعمل.
ورغم ضيق صدر الشيخ علي، لم يكن هناك من يكرهه، فكل أهالي البلدة يحبونه ويحبون الجلوس معه؛ لأنه طريف ويضحكهم، فقد كان يسمي عصاه "الحكمدار" كما كان يسمي الفقر "أبو أحمد".
رغم معرفة الناس بطرائف الشيخ علي، إلا أن كلماته كانت تحجب الضحك عنهم؛ لأن كلمة الكفر ليست هينة في الريف، فخاف الناس أكثر عندما رأوه يوجه وجهه للسماء مخاطبا ربه قائلا: "إنت عايز مني إيه؟ تقدر تقولي إنت عايز مني إيه؟ الأزهر وسبته عشان خاطر شوية المشايخ اللي عاملين أوصيا على الدين، ومراتي وطلقتها، والدار وبعتها، وأبو أحمد سلطته عليا دونا عن بقية الناس، هو مفيش في الدنيا كلها إلا أنا؟ ما تنزل غضبك يا رب على تشرشل أو أيزنهاور.. مش قادر إلا علي أنا؟ عايز مني إيه دلوقت؟ المرات اللي فاتت كنت بتجوعني يوم وباستحمل.. وأقول يا واد كأننا في رمضان، المرة دي ماكلتش من أول امبارح العصر، وسجاير ممعيش من اسبوع، انت بتقول ف الجنه عسل نحل وفواكه وأنهار لبن، مبتدنيش منهم ليه؟ مستني أما أموت من الجوع علشان أروح الجنة وآكل من خيرك؟ لا يا سيدي يفتح الله، احييني النهارده وبعد كده وديني مطرح ما توديني..".
بدا الوجوم على وجوه الناس مما يقوله الشيخ، خاصة عندما طلب من الله أن ينزل عليه مائدة من السماء، قائلا: "أنا مش أقل من مريم، وهي ماكنتش فقيره، إنما أنا أبو أحمد مطلع ديني، وديني ما أنا ساكت غير أما تنزل علي الطبلية حالا وعليها جوز فراخ وطبق عسل نحل ورصة عيش ساخن، وهعد لحد عشرة وإلا هكفر..".
ومن ثم بدأ الناس في إرضائه منهم من عرض عليه طبق بامية بدون ظفر، وبعضهم عرض عليه سمك، لكنه نهرهم ورفض، إلى أن أحضروا له رطل لحم بتلوا، ومعه فجلا وجوزين عيش مرحرح ومخ بصل، وأعطاه أحدهم علبة سجائر، حتى وصل الشيخ في النهاية إلى مبتغاه.
The post اقرأ| «طبلية من السماء» ليوسف إدريس appeared first on البديل.